فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ}.
سبب نزولها أن أزواجه، صلى الله عليه وسلم، تغايرن وأردن زيادة في كسوة ونفقة، فنزلت.
ولما نصر الله نبيه وفرق عنه الأحزاب وفتح عليه قريظة والنضير، ظن أزواجه أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم، فقعدن حوله وقلن: يا رسول الله، بنات كسرى وقيصر في الحلى والحلل والإماء والخول، ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق.
وآلمن قلبه بمطالبتهن له بتوسعة الحال، وأن يعاملهن بما يعامل به الملوك والأكابر أزواجهم، فأمره الله أن يتلو عليهن ما نزل في أمرهن؛ وأزواجه إذ ذاك تسع: عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سملة بنت أبي أمية، وهؤلاء من قريش.
ومن غير قريش: ميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية.
وقال أبو القاسم الصيرفي: لما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم، بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة، فاختار الآخرة، وأمر بتخيير نسائه ليظهر صدق موافقتهن، وكان تحته عشر نساء، زاد الحميرية، فاخترن الله ورسوله إلا الحميرية.
وروي أنه قال لعائشة، وبدأ بها، وكانت أحبهن إليه: «إن ذاكر لك أمرًا، ولا عليك أن لا تعجلي فيه تستأمري أبويك» ثم قرأ عليها القرآن، فقالت: أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، لا تخبر أزواجك أني اخترتك، فقال: «إنما بعثني الله مبلغًا ولم يبعثني متعنتًا» والظاهر أنهن إذا اخترن الحياة الدنيا وزينتها، متعهن رسول الله وطلقهن، وأنه ليس باختيارهن ذلك يقع الفراق دون أن يوقعه هو.
وقال الأكثرون: هي آية تخيير، فإذا قال لها: اختاري، فاختارت زوجها، لم يكن ذلك طلاقًا.
وعن علي: تكون واحدة رجعية، وإن اختارت نفسها، وقعت طلقة بائنة عند أبي حنيفة وأصحابه، وهو قول علي؛ وواحدة رجعية عند الشافعي، وهو قول عمر وابن مسعود؛ وثلاث عند مالك.
وأكثر الناس ذهبوا إلى أن الآية في التخيير والطلاق، وهو قول علي والحسن وقتادة، قال هذا القائل.
وأما أمر الطلاق فمرجأ، فإن اخترن أنفسهن، نظر هو كيف يسرحهن، وليس فيها تخيير في الطلاق، لأن التخيير يتضمن ثلاث تطليقات، وهو قد قال: {وأسرحكن سراحًا جميلًا} وليس مع بت الطلاق سراح جميل. انتهى.
والذي يدل عليه ظاهر الآية هو ما ذكرناه أولًا من أنه علق على إرادتهن زينة الحياة الدنيا وقوع التمتيع والتسريح منه، والمعنى في الآية: أنه كان عظيم همكن ومطلبكن التعمق في الدنيا ونيل نعيمها وزينتها.
وتقدم الكلام في: {فتعالين} في قوله تعالى: {قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم} في آل عمران.
{أمتعكن} قيل: المتعة واجبة في الطلاق؛ وقيل: مندوب إليها.
والأمر في قوله: {ومتعوهن} يقتضي الوجوب في مذهب الفقهاء، وتقدم الكلام في ذلك، وفي تفصيل المذاهب في البقرة.
والتسريح الجميل إما في دون البيت، أو جميل الثناء، والمعتقد وحسن العشرة إن كان تامًا.
وقرأ الجمهور: {أمتعكن} بالتشديد من متع؛ وزيد بن علي: بالتخفيف من أمتع، ومعنى {أعد} هيأ ويسر، وأوقع الظاهر موقع المضمر تنبيهًا على الوصف الذي ترتب لهن به الأجر العظيم، وهو الإحسان، كأنه قال: أعدلكن، لأن من أراد الله ورسوله والدار الآخرة كان محسنًا.
وقراءة حميد الخراز: {أمتعكن وأسرحكن} بالرفع على الاستئناف؛ والجمهور: بالجزم على جواب الأمر، أو على جواب الشرط، ويكون {فتعالين} جملة اعتراض بين الشرط وجزائه، ولا يضر دخول الفاء على جملة الاعتراض، ومثل ذلك قول الشاعر:
واعلم فعلم المرء ينفعه ** إن سوف يأتي كل ما قدرا

ثم نادى نساء النبي، ليجعلن بالهن مما يخاطبن به، إذا كان أمرًا يجعل له البال.
وقرأ زيد بن علي، والجحدري، وعمرو بن فائد الأسواري، ويعقوب: تأت، بتاء التأنيث، حملًا على معنى من؛ والجمهور: بالياء، حملًا على لفظ من.
{بفاحشة مبينة} كبيرة من المعاصي، ولا يتوهم أنها الزنا، لعصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من ذلك، ولأنه وصفها بالتبيين والزنا مما يتستر به، وينبغي أن تحمل الفاحشة على عقوق الزوج وفساد عشرته.
ولما كان مكانهن مهبط الوحي من الأوامر والنواهي، لزمهن بسبب ذلك.
وكونهن تحت الرسول أكثر مما يلزم غيرهن، فضوعف لهن الأجر والعذاب.
وقرأ نافع، وحمزة، وعاصم، والكسائي: {يضاعف} بألف وفتح العين؛ والحسن، وعيسى، وأبو عمرو: بالتشديد وفتح العين؛ والجحدري، وابن كثير، وأبو عامر: بالنون وشد العين مكسورة؛ وزيد بن علي، وابن محيصن، وخارجة، عن أبي عمرو: بالألف والنون والكسر؛ وفرقة: بياء الغيبة والألف والكسر.
ومن فتح العين رفع {العذاب} ومن كسرها نصبه.
{ضعفين} أي عذابين، فيضاف إلى عذاب سائر الناس عذاب آخر.
وقال أبو عبيدة، وأبو عمرو فيما حكى الطبري عنهما: إنه يضاف إلى العذاب عذابان، فتكون ثلاثة.
وكون الأجر مرتين بعد هذا القول، لأن العذاب في الفاحشة بإزاء الأجر في الطاعة.
{وكان ذلك} أي تضعيف العذاب عليهن، {على الله يسيرًا} أي سهلًا، وفيه إعلام بأن كونهن نساء، مع مقارفة الذنب، لا يغني عنهن شيئًا، وهو يغني عنهن، وهو سبب مضاعفة العذاب.
{ومن يقنت} أي يطع ويخضع بالعبودية لله، وبالموافقة لرسوله.
وقرأ الجمهور: ومن يقنت بالمذكر، حملًا على لفظ من، وتعمل بالتاء حملًا على المعنى.
{نؤتها} بنون العظمة.
وقرأ الجحدري، والأسواري، ويعقوب، في رواية: ومن تقنت بتاء التأنيث، حملًا على المعنى، وبها قرأ ابن عامر في رواية، ورواها أبو حاتم عن أبي جعفر وشيبة ونافع.
وقال ابن خالويه: ما سمعت أن أحدًا قرأ: ومن يقنت، إلا بالتاء.
وقرأ السلمي، وابن وثاب، وحمزة، والكسائي: بياء من تحت في ثلاثتها.
وذكر أبو البقاء أن بعضهم قرأ: ومن يقنت بالياء، حملًا على المعنى، ويعمل بالياء حملًا على لفظ من قال؛ فقال بعض النحويين: هذا ضعيف، لأن التذكير أصل لا يجعل تبعًا للتأنيث، وما عللوه به قد جاء مثله في القرآن، وهو قوله تعالى: {خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا} انتهى.
وتقدم الكلام على {خالصة} في الأنعام.
والرزق الكريم: الجنة.
قال ابن عطية: ويجوز أن يكون في ذلك وعد دنياوي، أي أن أرزاقها في الدنيا على الله، وهو كريم من حيث هو حلال وقصد، وبرضا من الله في نيله.
وقال بعض المفسرين: العذاب الذي توعد به ضعفين هو عذاب الدنيا، ثم عذاب الآخرة؛ وكذلك الأجر، وهو ضعيف. انتهى.
وإنما ضوعف أجرهن لطلبهن رضا رسول الله، بحسن الخلق وطيب المعاشرة والقناعة والتوقر على عبادة الله.
{يا نساء النبي لستن كأحد من النساء} أي ليس كل واحدة منكن كشخص واحد من النساء، أي من نساء عصرك.
وليس النفي منصبًا على التشبيه في كونهن نسوة.
تقول: ليس زيد كآحاد الناس، لا تريد نفي التشبيه عن كونه إنسانًا، بل في وصف أخص موجود فيه، وهو كونه عالمًا، أو عاملًا، أو مصليًا.
فالمعنى: أنه يوجد فيكن من التمييز ما لا يوجد في غيركن، وهو كونكن أمهات المؤمنين وزوجات خير المرسلين.
ونزل القرآن فيكن، فكما أنه عليه السلام ليس كأحد من الرجال، كما قال عليه السلام: «لست كأحدكم»، كذلك زوجاته اللاتي تشرفن به.
وقال الزمخشري: أحد في الأصل بمعنى وحد، وهو الواحد؛ ثم وضع في النفي العام مستويًا فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه، والمعنى: لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء، أي إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة، لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة، ومنه قوله عز وجل: {والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم} يريد بين جماعة واحدة منهم، تسوية بين جميعهم في أنهم على الحق المبين. انتهى.
أما قوله: أحد في الأصل بمعنى: وحد، وهو الواحد فصحيح.
وأما قوله: ثم وضع، إلى قوله: وما وراءه، فليس بصحيح، لأن الذي يستعمل في النفي العام مدلوله غير مدلول واحدًا، لأن واحد ينطلق على كل شيء اتصف بالوحدة، وأحد المستعمل في النفي العام مخصوص بمن يعقل.
وذكر النحويون أن مادته همزة وحاء ودال، ومادة أحد بمعنى وحد أصله واو وحاء ودال، فقد اختلفا مادة ومدلولًا.
وأما قوله: {لستن} كجماعة واحدة، فقد قلنا: إن قوله: {لستن} معناه: ليست كل واحدة منكن، فهو حكم على كل واحدة واحدة، ليس حكمًا على المجموع من حيث هو مجموع.
وقلنا: إن معنى كأحد: كشخص واحد، فأبقينا أحدًا على موضوعه من التذكير، ولم نتأوله بجماعة واحدة.
وأما {ولم يفرقوا بين أحد منهم} فاحتمل أن يكون الذي للنفي العام، ولذلك جاء في سياق النفي، فعم وصلحت البينية للعموم.
واحتمل أن يكون أحد بمعنى واحد، ويكون قد حذف معطوف، أي بين واحد وواحد من رسله، كما قال الشاعر:
فما كان بين الخير لوجا سالمًا ** أبو حجر إلا ليال قلائل

أي: لستن مثلهن إن اتقيتن الله، وذلك لما انضاف مع تقوى الله من صحبة الرسول وعظيم المحل منه، ونزول القرآن في بيتهن وفي حقهن.
وقال الزمخشري: {إن اتقيتن} إن أردتن التقوى، وإن كن متقيات.
{فلا تخضعن بالقول} فلا تجبن بقولكنّ خاضعًا، أي لينًا خنثًا، مثل كلام المريبات والمومسات.
{فيطمع الذي في قلبه مرض} أي ريبة وفجورًا. انتهى.
فعلى القول الأول يكون {إن اتقيتن} قيدًا في كونهن لسن كأحد من النساء، ويكون جواب الشرط محذوفًا.
وعلى ما قاله الزمخشري، يكون {إن اتقيتن} ابتداء شرط، وجوابه {فلا تخضعن} وكلا القولين فيهما حمل.
{إن اتقيتن} على تقوى الله تعالى، وهو ظاهر الاستعمال، وعندي أنه محمول على أن معناه: إن استقبلتن أحدًا، {فلا تخضعن}.
واتقى بمعنى: استقبل معروف في اللغة، قال النابغة:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ** فتناولته واتقتنا باليد

أي: استقبلتنا باليد، ويكون هذا المعنى أبلغ في مدحهن، إذ لم يعلق فضيلتهن على التقوى، ولا علق نهيهن عن الخضوع بها، إذ هن متقيات لله في أنفسهن، والتعليق يقتضي ظاهره أنهن لسن متحليات بالتقوى.
قال ابن عباس: لا ترخصن بالقول.
وقال الحسن: لا تكلمن بالرفث.
وقال الكلبي: لا تكلمن بما يهوى المريب.
وقال ابن زيد: الخضوع بالقول ما يدخل في القلب الغزل.
وقيل: لا تلن للرجال القول.
أمر تعالى أن يكون الكلام خيرًا، لا على وجه يظهر في القلب علاقة ما يظهر عليه من اللين، كما كان الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال برخيم الصوت ولينه، مثل كلام المومسات، فنهاهن عن ذلك، وقال الشاعر:
يتكلم لو تستطيع كلامه ** لانت له أروى الهضاب الصخر

وقال آخر:
لو أنها عرضت لأشمط راهب ** عبد الإله ضرورة المتعبد

لرنا لرؤيتها وحسن حديثها ** ولحالها رشدًا وإن لم يرشد

وقرأ الجمهور: {فيطمع} بفتح الميم ونصب العين، جوابًا للنهي؛ وأبان بن عثمان، وابن هرمز: بالجزم، فكسرت العين لالتقاء الساكنين، نهين عن الخضوع بالقول، ونهى مريض القلب عن الطمع، كأنه قيل: لا تخضع فلا تطمع.
وقراءة النصب أبلغ، لأنها تقتضي الخضوع بسبب الطمع.
وقال أبو عمرو الداني: قرأ الأعرج وعيسى: فيَطمِع، بفتح الياء وكسر الميم.
ونقلها ابن خالويه عن أبي السماء، قال: وقد روي عن ابن محيصن، وذكر أن الأعرج، وهو ابن هرمز، قرأ: فيُطمِعَ، بضم الياء وفتح العين وكسر الميم، أي فيطمع هو، أي الخضوع بالقول؛ والذي مفعول، أو الذي فاعل والمفعول محذوف، أي فيطمع نفسه.
والمرض، قال قتادة: النفاق؛ وقال عكرمة: الفسق والغزل.
{وقلن قولًا معروفًا} والمحرم، وهو الذي لا تنكره الشريعة ولا العقول.